نعم، هذه دعوة إلى المعنيّين بطباعة المصحف الشريف أقترح فيها عليهم أن يوفروا على ميزانياتهم الكثير من المال وعن المطابع والمراجعين الكثير من العناء، وذلك بأن يشرعوا منذ الآن في طباعة مصاحف جديدة يحذفون منها كل محتويات المصاحف التقليدية ويتركون فقط سورتي “الفاتحة” و”الكهف”.
لست أبغي من وراء ذلك محاربة القرآن ولا تأييد أولئك الذين يدعون هنا وهناك إلى التصرف في الكتاب المقدّس، من خلال حذف بعض الآيات التي يرون أنها “لم تعد تناسب العصر”. بل نيتي الخالصة أن أساهم في تقليص نفقات المحسنين المتبرعين بأموالهم من أجل طباعة المصحف، مثلما أسلفت، وأيضا أن تتيسر أمور القارئين للقرآن فلا يضطروا لحمل مجلدات ضخمة بين أيديهم.
ولكن، ماذا وراء هذا المقترح؟
لمن يريد جوابا عمليا، أدعوه إلى زيارة أي مسجد والتوجه إلى الرفوف التي تصطف عليها عشرات أو مئات المصاحف، ثم ليجر بحثا سريعا عن ذلك الخيط الجميل الذي يوضع في كل مصحف لاستخدامه كعلامة أو فاصل لآخر سورة أو آية يتوقف فيها القارئ للعودة إليها والانطلاق منها في جلسة القراءة التالية. إن كنتم غير منتبهين، فستكتشفون عندما تسحبون الخيط أنهموجود تلقائيا في أول سورة “الكهف”. كرِّروا العملية وتنقّلوا بين المساجد في شرق الدنيا وغربها وستجدون نفس الشيء في جميع المصاحف، أو لنقل في جلّها. بل ربّـما حتى في منازلكم.
القرآن كاملا اختزلناه في سورة واحدة، هي سورة “الكهف”، وتلاوة القرآن صارت في الغالب مقتصرة على يوم الجمعة فقط، وفيه تُقرأ هذه السورة لوحدها. لماذا؟ هل هذا فعلا ما يريده الله منا؟ وما فائدة باقي السور إذا كنا نركّز على سورة واحدة فحسب؟
هل الرسول عليه الصلاة والسلام أراد من أتباعه فعلا أن يصلوا إلى ما هم فيه الآن في مسألة تلاوة القرآن؟ وهل إذا قرأ المسلم يوم الجمعة سورة أخرى غير سورة “الكهف” لن تُقبل منه؟ أو هل سيحصل على أجر أقلّ؟ بل هل إذا قرأ سورة “الكهف” في يوم آخر غير يوم الجمعة سيكون ثواب فعله أقل مما لو قرأها يوم الجمعة؟ أم هل إذا اعتبرها سورة مثل كل سور القرآن ولم يفضلها على غيرها سيكون آثما؟
الله سبحانه وتعالى أمرنا أو حثّنا على تلاوة القرآن كله وعلى تدبّره، ولا أعتقد أن نبيّه الكريم يجرؤ على تغيير هذا الأمر ويغامر بتفضيل آية أو سورة على أخرى ثم يأمر أتباعه بالتركيز على سورة دون غيرها.
وإذا سلّمنا جدلاً أن النبيّ محمدا عليه السلام يريد منا فعلا أن نقرأ سورة معينة يوم الجمعة من غير باقي السور، فلماذا يختار سورة “الكهف”؟ لماذا لا تكون مثلا سورة “الجمعة” أو سورة “النور” التي وصفها الله في بدايتها بأنها سورة مفروضة وبها أحكام تهمّ الحياة اليومية للمسلمين أكثر بكثير من الأحكام التي في سورة “الكهف”؟
قصّة سورة “الكهف” هذه أراها عيّنة واحدة من الأشياء التي أراها مُضرّة بطريقة ممارستنا لديننا وفهمنا لحكمة ما أنزله الله علينا وما أراده لنا. وأعلم جيدا أن الإقلاع عن هذا التصرّف أو غيره من التصرفات المشوّشة لإيماننا لن يكون سهلا إن لم أقل مستحيلٌ. فقد جرّبت هذا مع مقربين مني فهموا المغزى الحقيقي من ملاحظتي لهذا التصرف، إلا أنّ ما تراكَم في باطن إدراكهمعلى مرّ العقود يمنعهم من التحرر من قيود التضليل واستعمال عقولهم لفهم دينهم بعيدا عن الشوائب.