قبل أيام قصدت أحد المساجد للصلاة، وأنا في سفر، وكان الوقت قريبا من أذان العصر. صليت الظهر منفردا ثم أقيم للصلاة والتحقت بالجماعة. اصطف المصلون وانطلق الإمام يروح ويجيء أمام الواقفين وراءه ينظر إلى هذا فيحركه قليلا إلى الأمام ويتنقل إلى الآخر يطلب منه أن يتزحزح يسارا وظل كذلك لنحو نصف دقيقة. تساءلت في نفسي لماذا يضطر الإمام إلى بذل كل هذا الجهد بينما كان قادرا على أن يطلب من القائمين على المسجد أو حتى من المصلين المتبرعين تغيير الفراش بسجاد يشبه ما هو موجود في معظم المساجد. سجّاد مخطط يوضع بطريقة تجعل المصلين يصطفون تلقائيا بانتظام، أو على الأقل ترسم على الفراش خطوط تكفي الإمام عناء معاملة المصلين كتلاميذ وتريح هؤلاء من كثرة النظر إلى أقدامهم ثم إلى الإمام وهو يتصرف معهم كبقّال يرتب بضاعته في الصندوق.
كنت أراقب الإمام مضطربا ولم ألاحظ انشغال جاري في الصف بأمر “جلل”. الإمام اطمأن إلى أن الصف الأول بات في حالة من الاستواء الهندسي المقبول، لكن الشخص الذي على يساري لا زال “مشوَّشا”. كنت في آخر الصف على يمين الإمام واقفا معتدلا أتجهز للتكبير، بينما جاري لا يزال يبدع في حركات برجليه يفتحهما، ثم يغلقهما ويتحرك نحوي، ثم يلاحظ أنه ابتعد عن الذي على يساره فيعود إليه ويحرك رأسه باتجاه رجليّ، قبل أن يتشجّع ويشير إليّ بيده اليمنى أن حرِّك قدمك نحوي وألصقها بقدمي.
طبعا كنت منذ البداية قد فهمت ما كان يصبو إليه، وما اختياري لموقعي في آخر الصف إلا لتجنب الوقوع في فخّ مماثل طالما وقعت فيه في السابق. فضّلت أن أتركه على حاله حتى ييأس دون أن أردّ عليه مثلما فعلت قبل سنوات مع أحدهم عندما استمر يلحّ عليّ أن ألصق قدمي بقدمه فرفعت يدي نحوه مشيرا إليه أن يتوقف ويتركني أركزّ مع الإمام الذي كان قد كبّر للصلاة وبدأ التلاوة. انتهى الرجل فعلا، لكنه نجح -كما أفلح صاحبنا في الواقعة الأخيرة-في التشويش عليّ وإدخالي في حوار أزلي مع نفسي حول مدى أهمية هذا “التلاحم” في الصلاة. منذ أكثر من عقدين من الزمن استوقفتني حادثة كان بطلها رجل متقدما في السن اضطره اثنان من أهل التلاحم (وقع فريسة بينهما) إلى أن يتقدّم بمقدار عنهما في الصف حتى يفلت من تحرشهما بقدميه.استلهمت منه مرة هذه الفكرة ومرات كنت أردّ على هذا بالوقوف على عقبيّ ورفع ما تبقّى من قدميّ إلى السماء حتى يفهم هذا وذاك أنني متضايق من الأمر. بعد خبرة طويلة صرت أغادر الصف تماما وأختار مكانا لا مضايقة فيه. ولا أتحدّث هنا عن تسابق بعضهم للوقوف في فراغات لا تسع لطفل صغير تحت شعار “تزاحموا تراحموا”، أو مرات عندما يستحيل ذلك وترى أحدهم يفتح رجليه بزاوية انفراج مبالغ فيها حتى يحقق التلاحم بين هذا وذاك.
لم أكن أعتقد أن هذه الحركات لا تزال قائمة في 2022 وفي بلاد الغرب، لكن اندهاشي زال عندما كنت خارجا من ذلك المسجد فوجدت جدارية معلقة ومطبوعات أخرى عن كيفية الصلاة وفتاوى أخرى لابن باز.
حجة هؤلاء هي ما يرددونه نقلا عن الرسول عليه الصلاة والسلام. “القدم للقدم والكتف للكتف ولا تتركوا الفُرج للشيطان”، أو كما يقال. لا أريد الآن الخوض في صحة هذا الكلام عن النبي، لكني بالمقابل أسوق بعض الملاحظات والأسئلة للتأمل فيها ثم ليحكم كل واحد بنفسه إن كان لهذا التلاحم بين أقدام المصلين وأكتافهم أساس من أصل الدين وحسن إقامة الصلاة.
القاعدة الرئيسية في صلاة المسلم أن يكون فيها خاشعا، أي مركِّزا وساكناً ومشتغلا فقط بالتوجّه إلى الله. أنا شخصيا يستحيل عليّ أن أنال قسطا من هذا الخشوع والمصلون حولي لا يتوقفون من بداية الصلاة إلى نهايتها عن تحريك أرجلهم ورؤوسهم يمنة ويسرة بحثا عن تحقيق “التلاحم القدمي والكتفي”، ولا أدري هل الذين يفعلون هذا بمقدورهم أن يحافظوا على عقولهم خاشعة مع الله في نفس الوقت الذي يطلقون فيه العنان لأقدامهم ورؤوسهم في رحلة التلاحم المتواصلة. ثم هل بإمكان المرء أن يركز ويخشع في الصلاة وقدمه تحتك بقدم شخصين آخرين أو واحد على الأقل؟ هل الغاية من الصلاة هي التعبّد والتواصل مع ربّ العالمين أمالحرص على أن تبقى صفوف المصلين وأقدامهم متراصّة ومتساوية بالملمتر؟ قد يقول قائل: لماذا لا نجمع بين الاثنين؟! وردّي هو: وماذا نختار لو لم يكن متاحا لنا إلا خيارٌ واحد؟ هل نفضّل التركيز في الصلاة أم نضحي بالخشوع في سبيل أقدام متلاحمة؟
ننتقل هنا إلى الغاية من تحقيق هذا التلاحم، “لا تدعوا الفُرَج للشيطان”. ولنسلّم جدلا أن الشيطان في غاية من الحرص على أن يشارك المصلين صلواتهم. هؤلاء يدفعوننا إلى تخيل الشيطان يقفز بين صفوف المصلين باحثا عن سنتمتر فراغ يقف فيه أو يضع فيه شيئا قبل أن يتنقل إلى مسجد آخر ثم إلى مدينة أخرى وإلى قارة أخرى.
وأختم بمجموعة من الأسئلة لعل الجواب عنها يقنعنا بجدّية ما يفعله المتلاحمون أو يبيّن لنا مدى سخافة ذلك وبعده عن الغاية النبيلة من الصلاة الخاشعة.
- على أي جانب من الإمام يقف الشيطان؟
- هل يعزف الشيطان عن الوقوف مع الذين يصلون فرادى، أم لعل هؤلاء لا صلاة لهم أصلا؟
- وهل من المستحيل أن يغلب الخاشعُ في الصلاة الشيطانَ إذا كان إلى جانبه؟
- وماذا عن حكم الذي يجد نفسه في آخر الصف ولا أحد إلى جانبه؟ هل هؤلاء يسكنهم الشيطان تلقائيا وصلاتهم باطلة؟
- وما دام الشيطان مهووسا، إلى هذا الحدّ، في البحث عن الفراغات بين المصلين، ما حكم ذلك الفراغ الذي بين أرجل المصلي الواحد، خاصة أولئك البارعين في مدّ أرجلهم بحثاً عن سد الفراغ؟
- وأخيرا ما قول هؤلاء “التلاحميِّين” في الآية الكريمة التي ينقل لنا فيها ربنا عن الشيطان قوله: “ثمَّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم”؟ ما دمنا جادين في سدّ الفراغ عن أيماننا وعن شمائلنا، فماذا نفعل مع الهوّة القائمة أمامنا ومن خلفنا؟